August 14, 2007

! سنحمي العيد

لم يحدث في التاريخ أن أقرّ المعتدي بفشله، بل بهزيمته، ثم خاف أهل النصر من إعلان انتصارهم أو الاحتفال به... بل واندفع بعضهم إلى حد التنصل منه مفضلاً أن يقلبه إلى هزيمة ليُدين بها مَن صنعه

فالنصر بداية وانتهاء للبنان كله، بدولته وشعبه، ولو أن المقاومة كانت الطليعة المقاتلة ببسالة نادرة
ثم إن هذا النصر للعرب جميعاً، في مشرقهم ومغربهم، بدليل أنهم خرجوا إلى الشوارع والساحات يحتفلون به ابتهاجاً إلى حد البكاء لطول ما انتظروا أي انتصار ولو في كرة القدم ! فكيف بانتصار غير مسبوق، وله مثل هذا الدوي على المستوى العالمي، وتترتب عليه مثل النتائج التي كشفت ادعاءات القدرات غير المحدودة لإسرائيل، والهيمنة الأميركية المطلقة على مقادير الشعوب في الكون أجمع

لم يحدث في التاريخ أن أنكرت « سلطة » على شعبها نصراً حققه بصمود أبنائه وبالتضحيات الجليلة التي تكبدها في حياة نسائه وشيوخه وأطفاله، وبينها بطبيعة الحال خسائر فادحة في أسباب العمران، لأن العدو الإسرائيلي يستمتع بالمجازر الجماعية وبتدمير البيوت على رؤوس أصحابها وبقصف الجسور والينابيع ومصادر النور والمدارس ودور الأيتام ومعها الزيتون والبرتقال وحقول القمح وأصص الورد والحبق وعريشات الياسمين

لكن هذا اليوم المطرّز بالأحمر القاني هو عيد بهي لجيلنا كما للأجيال الآتية، فما قبله غير ما بعده : لا إسرائيل هي اليوم إسرائيل التي كانت قبل حربها على لبنان، ولا لبنان هو لبنان الذي كان قبل إفشال شعبه ومقاومته وجيشه الحرب الإسرائيلية عليه... أما الأنظمة العربية فتفضل أن تستمر مرتاحة في ظلال الهزيمة، ولذلك فقد أخرجها النصر عن طورها فهبّت لتكافح الآثار الارتدادية لهذه « المغامرة » التي أفسدت عليها هناءتها واطمئنانها إلى قرب طي صفحة العداء والحروب مع أقوى قوة في المنطقة، المدعومة من أقوى قوة في الكون ! لذلك كان بديهياً أن تتنصل من هؤلاء « المغامرين »، بل أن تُدينهم ثم تندفع أنشط وأكثر حيوية إلى « هجوم السلام » قبل أن تجف دماء أطفال مروحين وقانا والجمالية والنبي شيت والقليلة والتليلة، فتجدد « المبادرة العربية » وتوفد إلى إسرائيل من يتشفع قيادتها لتقبل هذا العرض غير المسبوق : السلام مقابل السلامة

لقد اعترف العالم جميعاً بأن الحرب الإسرائيلية على لبنان قد فشلت في تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية.
واعترفت القيادات الإسرائيلية ذاتها، مدنية وعسكرية، بالفشل، وأُخضعت للمساءلة تمهيداً للمحاسبة عمّا لحق بسمعة الجيش الذي لا يُقهر من مهانة، وبما أصاب أمن المجتمع الإسرائيلي من ارتجاج وفقدان للثقة بقياداته ما جعل « الهجرة المضادة » ترتفع بمعدلات قياسية

ولقد اعترف العالم جميعاً بأن الإدارة الأميركية قد تدخلت لإطالة أمد الحرب الإسرائيلية، وبالأمر، متحملة النتائج السياسية، علناً، بغير أن تداري لا أتباعها من حكام العرب، ولا حتى أصدقاءها المخلصين من أهل السلطة في لبنان، ممن لم يؤمنوا يوماً بمبدأ المقاومة، ولم يصدقوا يوماً أن إرادة الشعب المؤمن بحقه تصنع المعجزات، خصوصاً إذا ما تعزز الإيمان بالقوة والعلم والدراية بالتوازنات السياسية القائمة، وطبيعة الصراع وأبعاده والتداعيات المحتملة لتفجراته المتوالية في منطقة قابلة للاشتعال.. وأولاً وأخيراً بسبب هوان أنظمتها واستسلامها المسبق أمام أعداء الأمة
ولعل هذه الاعترافات (الخارجية) تزيد من الغصة في يوم العيد هذا : النصر المخضّب
لكأنه محرّم على هذه الأمة أن تستشعر العزة بقدرتها على إفشال مخططات العدو وإلحاق الهزيمة العسكرية بالجيش الخامس في العالم

كأنه مقدّر على العرب أن يندثروا في غمار المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي (الشرق الأوسط الكبير)، وأن يقتتلوا حتى إبادة بعضهم بعضاً في أفياء « الفوضى البناءة » التي اغتالت العراق تحت الاحتلال وجعلت شعبه طوائف ومذاهب وأعراقاً وعناصر مشتبكة في فتنة تكاد تذهب بكيانهم السياسي وبمستقبلهم بعد حاضرهم، قبل أن تمتد إلى ما جاوره من أقطار، متخذة من الأثواب المموهة ما يناسب « المقام » : فهي شيعية ـ سنية هناك، وهي عربية ـ فارسية هنالك، في حين أنها أميركية الصنع أميركية المردود، وظيفتها إنهاء كل رابط يربط بين أبناء هذه الأمة المقهورة بحكامها قبل أعدائها، وبهوان أنظمتها وعسفها قبل التخلف والردة التي تحاول سحبها إلى الجاهلية تاركة مستقبلها رهينة في ايدي أعدائها

لقد أُنهك هذا الشعب المنتصر على عدوه، عدو أمته، بالمعارك الجانبية التي هدفت إلى وأد انتصاره، بل وقلبه إلى هزيمة ولو بالحرب الأهلية

لكنه سيحفظ هذا الانتصار ليس في قلبه فحسب، بل على الأرض أيضاً، وفي السياسة صانعة الحرب والسلام، التقدم والتخلف، الازدهار والفقر

سيحفظ اللبنانيون دمهم الذي استوى انتصاراً لهم ولأمتهم، مهما تحمّلوا من ظلم ذوي القربى ومن وحشية العدو، ومن اضطهاد حلفاء العدو بقيادة الإدارة الأميركية
فالنصر ليس لشخص وليس لحزب وليس لفئة، مهما عَظُم دور القائد والمقاومة، إنما هو للشعب والأمة جمعاء

والنصر في غد هذه الأمة وليس بعض ماضيها المغدور

مبارك هو النصر، وتحية إجلال للشهداء الذين منحونا الأمل بالغد، برغم بؤس الحاضر... فالغد سيجيء بهياً مطرزاً بدماء الشهداء وجديراً بتضحيات هذا الشعب جميعاً، بكل أطيافه وفي كل جهاتهم، ساحلاً وجبلاً، جنوباً وبقاعاً، إضافة إلى بيروت الأم

No comments: